التَّفريغ



والمعلوم يا إخوة أنَّ الفقهَ بحرٌ زاخرٌ، ولا يُمكن قطعُ الخلاف فيه؛ ولذلك إذا قرأتَ في الفقهِ؛ ستجدُ خلافًا بين العُلماء الكبار مِن المُتقدِّمين والمُتأخِّرين في كثيرٍ مِن مسائله، لكنَّ المُوفَّقَ مِن طُلَّاب العلم مَن ينظرُ إلى الدَّليل مِن حيثُ هو دليل، ولا ينظرُ إلى القائل؛ لأنَّ التَّعصُّبَ والتَّقليدَ المذمومَ قد يتسلَّلُ إلى قلبِ الإنسان وهو لا يشعر.

فنجد أنَّ بعضَ النَّاس يتعصَّبُ لإمامٍ مِن المُتقدِّمين، أو يُقلِّدهُ تقليدًا مذمُومًا، أو لإمامٍ مِن المُتأخِّرين، ويذمُّ تقليدَ المُتقدِّمين، ويتعصَّبُ ويُقلِّدُ إمامًا مِن الأئمَّة المُتأخِّرين، فإذا ذكرتَ قولًا خالَفَ قولَ هذا الإمام؛ يمتعضُ ولا يُفكِّر فيه، ولا ينظر في دليل؛ لأنَّ القولَ هو قول ذلك الإمام.

يعني بعضُ النَّاس ـ مثلًا ـ يتعصَّبون لقولِ الإمام الألبانيّ رحمه الله وهو مُحدِّثٌ فقيه، آتاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بسطةً شديدةً في العلم، نجدُ أنَّ بعضَ النَّاس يتعصَّب لقولِ الشَّيخ ناصر رحمه الله؛ فكُلُّ ما قاله الشَّيخ ناصر فهو صحيح، وكُلُّ ما خالَفَ قولَ الشَّيخ ناصر؛ فلا يُلتفتُ إليه سواءً نصَّ على هذا، أعني القائلَ أو لم ينُصْ.

فإنَّك تجدُ بعضَ النَّاس، لا يقول ـ مثلًا ـ :إنَّ الشَّيخ ناصر معصوم، أو أنَّ الشَّيخ ناصر لا يُخطئ، لكن يقول: هو مُوفَّق..هو مُوفَّق! كُلُّ العُلماء مُوفَّقُون، ولكنَّهم يُخطئون و يُصِيبون.
أو يقول: هو لا يقول إلَّا بالدَّليل والأثر، ويجمع الآثار؛ الإمام أحمد أعلى مٍِنه، وأكمل مِنه؛ فلو كانت العبرة بالسُّنَّة لكان الإمام أحمد أوْلى بالتَّقليد.
فمِثلُ هذا يا إخوة ينبغي أنْ يُحذر.

المُوفَّق مِن طُلَّاب العلم مَن ينظر إلى القول مِن جهة الدَّليل، فحيثُما ثبتَ الدَّليل؛ قال به، مُعظِّمًا العُلماء، عارِفًا فضلَهم، مُثْنيًّا عليهم، وإنْ ترك قولَهم في هذه المسألة.
فتركُ القول لا يعني القدحَ في العالم كما يفعلهُ بعضُ السُّفهاء اليوم، بعضُ السُّفهاء تعاظموا في أنفسِهم؛ حتّى أصبحوا يرَوْن أنَّه لا أحدَ فوقهم في أهل الأرض، كأنَّه مُفتي الجنَّ والإنس، وعالم البَرِّ والبحر، لا يتقدَّم عليه أحدٌ، ولا يغلِبُهُ أحدٌ، تعاظموا في أنفسِهم أو عظَّمَهم بعضُ أتباعهم مِمَّن لا علمَ عنده؛ لا شكَّ أنَّ هذا مِن الجهل الَّذي قد يقود الإنسان إلى أنْ يتطاول على العُلماء، بل إلى أنْ يتطاول على كُلِّ ما خالَفَ قولَه ولو كان يَسنُدُهُ دليل، كما سمعتُ بعضَهم يُشير إلى مسألة تحريك الأُصبع في التَّشهُّد، ويقول: ماذا يُريد بتحريك أُصبعه؟ هل يُريد أنْ يرقص؟!
سُبحان الله.. تحريك الأُصبع وَرَدَ فيه حديث، إنْ قُلتَ أنتَ إنَّه شاذٌّ؛ فلا تعمل به، ولكن إيَّاك ثُمَّ إيَّاك أنْ تتطاول على ما يُضاف إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأمرٍ له وجه.

ينبغي علينا يا إخوة أنْ نتعلَّم المنهجَ الشَّرعيَّ الصَّحيح في التَّعامل مع الفقه، ومع أقوال العُلماء.

فالعالِمُ ليس مُدَّعي العلم، وليس طالبَ العلم، بل العالِم الإمام نعرفُ أنَّه يُخطئ ويُصيبُ، وأنَّه لم يُحِطْ أحدٌ بالعلم بحيثُ لم يتركْ لغيرِه مجالًا، فنأخذ مِن قوله ما وافق الدَّليل، ونترك ما خالَفَ الدَّليل، ولكن نبقى مُعظِّمِين لعُلَمائنا، مُحترِمين لهم، عارِفين لهم فضلَهم، لا نتجاوز ذلك أبدًا؛ وهذا الّذي يكون فيه طالبُ العلم مُوفَّقًا.
فالفقهُ لا تحسبنَّ أنَّك ستجد فيه أنَّك تصِلُ إلى أقوالٍ تقول في الغالب إنَّها الصَّحيحة الَّتي لا يُوجد غيرُها، ولكن ستجد أنَّك تصِلُ إلى أنَّ قلبَك يطمئِنُّ إلى القول الفُلانيّ، فحيثُما اطمأنَّ القلبُ إلى القولِ الفُلانيّ بالدَّليل؛ عمِلنا به، مع إدراك فضل العُلماء، وأنَّ الفقه بحورٌ زاخرةٌ.